للكاتب /المستشار أحمد بركات
حين نشرت هذا المقال بجريدة الجمهورية عام 2019، صدرته بجملة تعجبية في طياتها دعوى للتفكر، تقول الجملة “عجيب أمرنا نحن بالمبادىء حين نقرأها، لكننا لا نحبها حين نفعلها.!!
هذه هى الحقيقة فنحن نؤمن بكثير من المبادئ الجميلة والراقية، منها ما هو أخلاقي ومنها ماهو إنساني وغيرها من المبادئ، ولكن الإيمان دون عمل لا يعد إيماناً كاملاً، وإن كان ليس كل الظاهر من العمل يعبر عن الإخلاص، صدق الحسن البصرى حين قال الايمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل.
يبدو أننا وبالفعل نؤمن بالكثير من المبادىء في حياتنا إيماناً ظاهرياً، قد يكون لأننا نحب أن نحمل هذا الجمال، على أمل أن من يحمل الروائح الطيبة، إن لم يمتلكها أصابه بعض عبيرها.
براءة البيه البواب ..قصة واقعية للكاتب أحمد بركات.
علمتني التجربة أن الحقائق، ليست كلمات براقة تأسر القلوب أو أفعال جذابة تفتقد إلى الحنكة، إن أفضل حقيقة من وجهة نظرى هى حقيقة تمخضت من تجربة ، فالأفعال والكلمات ماهى إلا إشارة لبعض من الحقيقة، ولكن ليس الظاهر من الحقيقة غالباً هو كامل الحقيقة، حينها سنعلم أن أجمل ما في الحقيقة كونها حقيقة عارية، حقيقة لا مجال للشك فيها، لأنها كانت نتاج لتجربة حقيقية، حينها تكون الحقيقة في قمة نقائها، وحينها قطعاً لن نهتم بالمثل الإسباني الذي يقول لا تظهر الحقيقة عارية بل ألبسها ثوباً.
تقبلوا اعتذاري لطول المقال ولكن صدقاً هذا ما لم يمكن ايجازه أو اختصاره.
ظهرت حركة التنقلات بالهيئات القضائية، وكنت ممن نقل لمحافظة الغردقة، انتقلت للسكن بشقة بتلك المحافظة، كنت معتاداً على إعطاء الزائد من النقود في تعاملاتي كنوع من التكافل أو التضامن أو التعبير عن الحب أو عن الامتنان، أيا كان مسماها فيكفيني أنها تحمل الحب والصدق.
عُين بالعمارة التي كنت أقطن بها، بواباً جديداً..
اعتدت على ارسال بواب العمارة لشراء بعض احتياجاتي، وكنت أترك له ما تبقى من مال زائد عن هذه الإحتياجات كبقشيش، في البداية كان يرفض أن يأخذ مقابل يزيد عن أجرته نظير عمله، فقد كان يتقاضى أجر من سكان العمارة نظير هذه الخدمة، لكني كنت أصر على إعطائه ما تبقى من فضل مال المشتريات، كان يفر هارباً منى مستليزا بدرج السلم رافضاً أخذ هذا المال!
عجيب أمرنا: نحن نؤمن بالمبادئ حين نقرأها، لكننا لا نحبها حين نفعلها!!
تكرر هذا الموقف منب ومنه مرات ومرات، إلى أن إعتاد هذا البواب على قبول ما كنت أعطيه له من فضل المال!! يقول الكاتب الأمريكى الساخر مارك توين من السهل أن يكون لديك مبادئ عندما تكون تغذيتك جيدة.
لكنني فوجئت بعد فترة بشىء غريب!! لقد تحول الأمر تدريجياً إلى استقطاع فقد صار البواب يأخذ ما تبقى من مال المشتريات دون الرجوع إلىَّ في ذلك، لم أهتم حينها بالأمر، لأنه كان لا يزيد غالباً عما أعطيه.
وفب يوم من الأيام كنت حينها عائداً من سفر، كان الوقت متأخراً، أرسلت البواب كعادتي لشراء بعض الاحتياجات، لم تكن النقود التي معي تكفي إلا لشراء هذه الأشياء فقط، عاد البواب بالمشتريات وأعطاني إياها، ووقف منتظراً فتعجبت حينها!
إن هذا الموقف جعلني أفكر، لذا قررت متعمداً أن أكرر هذا الأمر، فأرسلته في اليوم التالي لشراء بعض المشتريات، وأعطيته نقود على قدر مشترياتي فقط لأعلم كيف يفكر؟ أحضر البواب ما طلبت، وقف منتظرأ دون أن يتكلم، لكن ما لم يتحدث به قرأته فى عينيه، وبعد ساعات قليلة اتصلت به، لم يرد على الهاتف!!
وحين نزلت من شقتي وجدته جالساً، فسألته عن عدم رده على التليفون، اعتذر بحجة انشغاله، علمت حينها أني قد أفسدت ما كان صالحاً، لا تتعجبوا!! يقول الشاعر الإنجليزى الكسندر بوب: ليس على المرء حرج من الاعتراف بخطئه، فهذا يعني قوله بكلمات أخرى أنه اليوم أكثر حكمة مما كان بالأمس.
إن هذا البواب جاء نقياً، يرتضي أجرته، لا يقبل أن يأخذ أكثر من حقه، فأفسدته بإعطائه ما ليس بحق، فتصور مع الأيام أنه حق، لكني اعتبرت أن هذا استثناء.
فرغم أن هدفي من إعطاء هذا البواب ما تبقى من مال، كان هدف نبيل لا يخرج عن حدود الدعم أو التكافل، لكني إكتشفت بالتجربة، أنه ليس كل ما نعتقد أنه صواب لابد أن يكون صواب على الدوام، كما أنه ليس كل ما نعتقد أنه خطأ يكون خطأ على الدوام، ولكن من المؤكد أن أخطائنا الحاضرة هى أفضل دروس المستقبل، أو كما قيل ليست الحكمة أن تموت من أجل فكرة اكتسبتها، بل الحكمة أن تعيش من أجل فكرة نبيلة أنتجتها.
قررت أن لا أدفع بقشيش! يقول الكاتب الأمريكى مارك توين: لا شيء يحتاج إصلاح أكثر من عادات الناس.
ذهبت لأحد المطاعم الشهيرة التي كنت معتاداً على ترك بعض النقود للعاملين بها كبقشيش، وعندما امتنعت عن ذلك تغيرت المعاملة تماماً، تحدثت مع صديق لي في هذه الظاهرة الغريبة، لم يستعجب وضحك وقص لي ما حدث معه، قال: كنت معتاداً لتناول الطعام فيى مطعم ما، وكان الطعام يقدم لي ليس على نفس مستوى الأطعمة المقدمة للزبائن من حولي، فكنت أجد نفس الطعام على المنضدة التب بجوارى مختلفاً تماماً في الشكل والتقديم عن طعامي، وتكرر ذلك مرات عدة، فازدريت نفسي، حتى وجدت الحل!!
لقد قررت أن أدفع بقشيش على غير عادتي فلم أكن أومن به، فكان أول شىء فعلته حينما دخلت هذا المطعم، أن أعطيت البقشيش مقدماً لمن يقدم الطعام، ففجائني بأجمل ما لديه، فعلمت أنها لغة التعامل، وأيقنت تماماً من تمدد المقولة التي تقول الجنيه غلب الكارنيه.
صدمت جداً من كلام صديقي ..! لكني علمت حينها أنني أفسدت ما كان صالحاً، علمت الأن أننا نحن الفاسدون. وصدق الأديب الرائع وليام شكسبير حين قال: إن الإنسان بمحاولته الإصلاح يفسد ما هو صالح.
قلت لصديقى: إن أحدهم أفسد هذا الرجل عليك حينما أعطاه ما لا يستحق، فتصور أن هذا حق مكتسب له، لابد أن يقتضيه من الجميع ليؤدي عمله بإتقان، والآن أكاد أجزم أنى أفسدت بواب العمارة على سكان العمارة! تذكرت حينها حكمة الكاتب والروائى البريطانى هوربرت جورج ويلز حين قال: يكون البيت جميلاً عندما يقطنه قوم طيبون.
تأكدت حينها أن الفساد بدأ بفرد في مكان ما، ثم تمدد ليشمل سائر المجتمع، علمت حينها أن المرء بسلوكه الفردي قد يفسد مجتمع كامل، وحزنت كثيراً عندما شعرت أنني تسببت في إفساد هذا البواب، ليس هذا فحسب وإنما حين أفسدته على الأخرين وأولهم سكان العمارة، حين أردت الإصلاح أفسدت ما هو صالح، حين أردت أن أكفل أو أدعم فرداً، حملت أفراداً فوق طاقاتهم، وهم باقي سكان العمارة، تذكرت مقولة الرئيس الروسي فلادمير بوتن: أولئك الذين يحاربون الفساد يجب عليهم تنظيف أنفسهم أولا.
من المؤكد أن الدول المتقدمة قد تفهمت ذلك، حين غرست هذه الثقافة في النشئ، لكننا كدول متخلفة غفلنا عن ذلك فاستشرى الفساد في كامل المجتمع، يقول الزعيم الثوري المصري سعد زغلول: نحن لسنا محتاجين إلى كثير من العلم، ولكننا محتاجون إلى كثير من الأخلاق الفاضلة.
إن الإصلاح وإن كان يبدو أنه عمل جماعى متكامل .. إلا أنه أيضاً عملية فردية نابعة عن إرادة صادقة، لا تحدث بمجرد الرغبة في تحقيقها، وإنما بالسعي من أجل تحقيقها، والذي يبد أ غالباً من عندك.
سُئِل حكيم: بم ينتقم الإنسان من عدوه؟ فقال: بإصلاح نفسه.
أعتقد أنه مازال هناك وقت .. ابدأ بنفسك وتذكر أنه كما أن المجتمع قد يؤثر في أخلاق الفرد، فإن الأفراد يمكنهم أيضاً أن يصنعوا مجتمعاً. ويقول الكاتب المسرحي الكبير وليم شكسبير: تنازلوا عن دوركم في إصلاح الناس، وأصلحوا أنفسكم.
الصدمة!!
علمت الأن أن أصعب ما في القرار ليس اتخاذه وإنما تنفيذه، فحين قررت أن لا أدفع “بقشيش”، كان قراراُ من أسهل ما يكون اتخاذه، لكن الواقع أثبت أن أغلب الصعوبات دائماً تكمن في التنفيذ، لقد تعرضت بسبب هذا القرار لمواقف شديدة الحرج، ومن بين هذه المواقف التي حدثت معي، ما حدث في أحد الكافيهات التي كنت معتاداً على الجلوس بها، حيث كنت أذهب أحيانا للكتابة وتناول فنجاناً من القهوة، أتذكر حينها أنه كان سعر فنجان القهوة إحدى عشر جنيها، كنت معتاداً على ترك الأربعة جنيهات المتبقية للعامل، ولكن وبعد هذا القرار الصعب بمنع البقشيش كنت أنتظر الباقي، حتى أن صاحب الكافيه اعتاد أن يحاسبني حينها على الكوب بعشرة جنيهات، مما جعلني أضعف حتى فاجئني أحد الأصدقاء يوماً وقال لي منذ أن قرأت مقالتك اقتنعت بها وأخذت قراراً بمنع البقشيش ومازلت حتى الأن.
كان هذه إشارة قد تبدو عابرة لكني تعلمت منها ألا أغير مبادئي وأفكاري من أجل أحد، فلربما يأتي يوماً يعتقد فيه من غيرت لأجلهم مبادئي في هذه المبادئ، حينها سأحزن حزناً شديداً.
وأخيراً لا تجعل فعلك للخير التزاماً على الغير، ولكن افعل الخير بادارة جيدة، دون أن تجعل هذا الخير فرضاً على غيرك، ممن لا يستطيعون أداء هذا الخير.
إذا أعجبك المقالة اعمل متابعة للصفحة وشاركه مع أصدقائك وتذكر أن الكلمة رسالة.