كتبه/ أحمد بركات
في قصة الرِهان للطبيب والكاتب المسرحي أنطون تشيخوف، وتدور أحداث القصة حَولَ رِهان، انعقد بينَ رجل أعمال وَمُحامي شاب، عمّا إذا كانت عقوبة الإعدام أفضل أم السِّجن المُؤبد.
كان رأى رجل الأعمال، أن عقوبة الإعدام هى أكثر إنسانية من السجن مدى الحياة، غير أن المُحامي كان له رأى آخر، إذ كان يرى أنه لو يملك الخيار، سيختار حينها السجن مدى الحياة على الموت.
ومع إصرار كلا منهما على رأيه، انعقد رهان بين الإثنين بحضور كل من في الحفلة، وتم توقيع العقد من الطرفين بحضور شهود من الحفل، كانت قيمة الرهان مليوني روبل، يدفعها رجل الأعمال للمحامي، إذا استطاعَ أن يَعيش مُنعزلاً في حبس انفرادي لمدة خمسة عشر عاماً.
وبالفعل سَجن المُحامي في غُرفة صغيرة أسفل قصر رجل الأعمال، في بداية الأمر كان الأمر شاق حتى كاد أن يفقد المحامى عقله، عين رجل الأعمال حارساً على الزنزانة، وأمره أنه وفي حالة رغبة المحامي بالخروج منها، أن يفتح له باب الزنزانة، ويكون المحامي حينها قد خسر الرهان، كان مسموح للمحامي بمحبسه بطلب ما يشاء من الكتب؛ قرأ مئات الكتب في فترة محبسه حتى تزايدت ثروته المعرفية.
وفي هذه الأثناء تراجعت الثروة المادية لرجل الأعمال، وخسر الكثير من أمواله، وأدرك أن تسديد مال الرهان سيؤدي إلى إفلاسه تماماً، لذا قَرَر رجل الأعمال في لحضة ضعف، وقبل يوم واحد من انتهاء الخمسة عشر السنة المتفق عليها، أن يقتل المحامي وبذلك يتهرب من تسديد قيمة الرهان.
ذهب إلى الغُرفة أسفل قصره حيث سجن المُحامي، فوجده نائماً؛ وحينما هم بتنفيذ جريمته، استفاق المحامي من نومه ناظراً له دون مقاومة، فخاف رجل الأعمال منه وخرج مرتعشاً.
وفي الصباح الباكر جاء الشهود حسب الموعد المحدد منذ خمسة عشر عاماً، ونزل الجميع إلى الغرفة أسفل القصر، ليفتحوا باب الزنزانة التي يجلس بها المحامي، فكانت المفاجأة، الغرفة مليئة بأصناف متعددة من الكتب.. لكنها خاوية من البشر، لم يجدوا المحامي!!
صرخ رجل الأعمال على حارس الزنزانة يسأله عن سجينه، قال الحارس: لقد خرج السجين منذ عشر دقائق، خرج قبل الموعد المحدد للرهان بعشرة دقائق، لكنه ترك لك رسالة.. قرأ رجل الأعمال الرسالة والتي جاء فيها:
“إنني في الفترة التي قضيتها في السجن، تعلمت أن أحتقر الماديات، على اعتبار أنها أشياء عابرة، فلقد اكتشف أن المعرفة أهم من المال، لهذا فإني أتنازل عن مال الرهان، لأنه ورغم المدة التي قضيتها في السجن ..إلا أنني اكتشف أن عقوبة الإعدام أفضل بكثير من السجن مدى الحياة.
في الحقيقة أنت من ربح الرهان .. لذا كان يجب أن أرحل.
قد يتصور الكثير منا الأن أن هذا المُحامي أحمق، فهو لم يكن بحاجة بعد كل هذه التضحية أن يخسر مال الرِهان، ولكن الحقيقة أن صاحب الفكرة لا يعتقد في قيمة المادة قدر ما يعتقد في قيمة الفكرة والمبدأ.
الحقيقة الغائبة التى لم نراها أن هذا المحامى هو من ربح الرهان، حين استطاع أن يخلصه نفسه من الشهوات والأهواء، حين علم أن هناك فارق كبير بين القيمة والمال، فالقيمة بكل ما تحمله من جمال معنوي تستطبع إن أردت أن تترجمها أن تحولها إلى مال، لكن لن يستطيع المال يوماً أن يصنع قيمة.
لقد تمكن هذا المحامي أو قل هذا السجين من استرداد روحه، حين استطاع أن يحررها من المادة التى تخللتها خلال السنوات السابقة قبل الرهان.
لقد استطاع المحامي أن يتخلص من قيد المال، ليعلمنا أن المال لا يصنع حرية، كما أن الحرية لا تصنع أحرار، إنما الأحرار هم من يصنعوا الحرية، حين حرر نفسه من سجن الذات، الذى هو من أصعب السجون، تخلص المحامي من قيد السجن، ليعلمنا أن ليس كل من في السجون أشرار، إنما البيئة وحدها هى من تصنع الأشرار.
قد يتصور البعض أن هذا القيد هو باب الزنزانة، لكن الحقيقة خلاف ذلك، إن القيد الذى تخلص منه المحامي هو تحرره من قيد الضعف المادي ومن قيد الأهواء؛ ليرى أشياء لا يمكن أن تراها إلا الأرواح النقية؛ حينها سنعلم أن بين الحقيقة والسراب أشياء كثيرة لاترى بالعين لكنها يمكن أن ترى بالقلب، لمن كان يملك قلب؛ فكثير منا في الظاهر يحيا حراً لكنه هو سجين ذاته وأسير ضعفه؛ فهنيئا لمن حرر روحه من الظلام.
ما أغرب الإنسان الذى يضحي بالخلود الأبدي من أجل مُتع زائلة يقضيها في بضع سنوات قليلة من عمره.
فعلا إن عقوبة الإعدام رغم قسوتها إلا أنها أرحم بكثير من السجن مدى الحياة أو من السجن المؤبد، كما أن الإعدام لمن يستحقه هو قمة الإنسانية، فكما أننا سننهي به حياة إنسان، فإننا سننجي أخرين غيره من ذات المصير، لأننا سننجي المئات من البشر من بطش هذا القاتل.
قد يكون الأمر في ظاهره قاسي، لكنه قطعاً هو عقاب عادل؛ حينها سنعلم جيدا أنه ليس كل أبيض جميل، فجدران الأكفان وإن كانت تبدو بيضاء، لكنها تحمل الموت بين أحشائها، كما أنه ليس كل أسود قبيح، فأستار الكعبة رغم أنها سوداء، فإنها تحمل بين طياتها حياة القلوب.
اذا أعجبك المقال اعمل متابعة للصفحة ليصلك كل جديد من مقالات ومقولات للكاتب بركات وتذكر أن الكلمة رسالة.